بـ " يافا " يومَ حُطَّ بها الرِكابُ | تَمَطَّرَ عارِضٌ ودجا سَحابُ |
ولفَّ الغادةَ الحسناءَ ليلٌ | مُريبُ الخطوِ ليسَ به شِهاب |
وأوسعَها الرَذاذُ السَحُّ لَثْماً | فَفيها مِنْ تحرُّشِهِ اضطِراب |
و " يافا " والغُيومُ تَطوفُ فيها | كحالِمةٍ يُجلِّلُها اكتئاب |
وعاريةُ المحاسن مُغرياتٍ | بكفِّ الغَيمِ خِيطَ لها ثياب |
كأنَّ الجوَّ بين الشمسِ تُزْهَى | وبينَ الشمسِ غطَّاها نِقاب |
فؤادٌ عامِرُ الإيمانِ هاجَتْ | وسوِسُه فخامَرَهُ ارتياب |
وقفتُ مُوزَّعَ النَّظَراتِ فيها | لِطَرفي في مغَانيها انْسياب |
وموجُ البحرِ يَغسِلُ أخْمَصَيْها | وبالأنواءِ تغتسلُ القِباب |
وبيّاراتُها ضَربَتْ نِطاقاً | يُخطِّطُها . كما رُسمَ الكتاب |
فقلتُ وقد أُخذتُ بسِحر " يافا " | واترابٍ ليافا تُستطاب |
" فلسطينٌ " ونعمَ الأمُ ، هذي | بَناتُكِ كلُها خوْدٌ كَعاب |
أقَّلتني من الزوراءِ رِيحٌ | إلى " يافا " وحلَّقَ بي عُقاب |
فيالَكَ " طائراً مَرِحاً عليه | طيورُ الجوِّ من حَنَقٍ غِضاب |
كأنَّ الشوقَ يَدفَعُهُ فيذكي | جوانِحَهِ من النجم اقتراب |
ركبِناهُ لِيُبلِغَنا سحاباً | فجاوزَه ، لِيبلُغَنا السّحاب |
أرانا كيف يَهفو النجمُ حُبَّاً | وكيفَ يُغازِلُ الشمسَ الَّضَباب |
وكيفَ الجوُّ يُرقِصُهُ سَناها | إذا خَطرتْ ويُسكِره اللُعاب |
فما هيَ غيرُ خاطرةٍ وأُخرى | وإلاّ وَثْبةٌ ثُمَّ انصِباب |
وإلاّ غفوةٌ مسَّتْ جُفوناً | بأجوازِ السماءِ لها انجِذاب |
وإلاّ صحوةٌ حتّى تمطَّتْ | قوادِمُها ، كما انتفَضَ الغُراب |
ولمّا طبَّقَ الأرَجُ الثنايا | وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُلدِ باب |
ولاحَ " اللُّدُّ " مُنبسِطاً عليهِ | مِن الزَهَراتِ يانِعةً خِضاب |
نظْرتُ بمُقلةٍ غطَّى عليها | مِن الدمعِ الضليلِ بها حِجاب |
وقلتُ وما أُحيرُ سوى عِتابٍ | ولستُ بعارفٍ لِمَنِ العتاب |
أحقَّاً بينَنا اختلَفَتْ حُدودٌ | وما اختَلفَ الطريقُ ولا التراب |
ولا افترقَتْ وجوهٌ عن وجوهٍ | ولا الضّادُ الفصيحُ ولا الكِتاب |
فيا داري إذا ضاقَت ديارٌ | ويا صَحبيْ إذا قلَّ الصِحاب |
ويا مُتسابقِينَ إلى احتِضاني | شَفيعي عِندَهم أدبٌ لُباب |
ويا غُرَّ السجايا لم يَمُنُوا | بما لَطُفوا عليَّ ولم يُحابوا |
ثِقوا أنّا تُوَحَّدُنا همومٌ | مُشارِكةٌ ويجمعُنا مُصاب |
تَشِعُّ كريمةً في كل طَرفٍ | عراقيٍّ طيوفُكُم العِذاب |
وسائلةٌ دَماً في كلِّ قلبٍ | عراقيٍّ جُروحُكم الرِغاب |
يُزَكينا من الماضي تُراثٌ | وفي مُستَقْبَلٍ جَذِلٍ نِصاب |
قَوافِيَّ التي ذوَّبتُ قامَتْ | بِعُذري . إنّها قلبٌ مُذاب |
وما ضاقَ القريضُ به ستمحو | عواثِرَهُ صُدورُكم الرّحاب |
لئنْ حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعاً | به ، واشتفَّ مُهجتيَ الذَّهاب |
فمِنْ أهلي إلى أهلي رجوعٌ | وعنْ وطَني إلى وطني إياب |